فصل: من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}:
خصص في هدى هذا الكتاب بالمتقين، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن هداه عام لجميع الناس، وهي قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ} الآية. ووجه الجمع بينهما أن الهدى يستعمل في القرآن استعمالين أحدهما عام والثاني خاص. أما الهدى العام فمعناه إبانة طريق الحق وإيضاح المحجة سواء سلكها المبين له أم لا ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أي بينا لهم طريق الحق على لسان نبينا صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع أنهم لم يسلكوها بدليل قوله عز وجل: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} ومنه أيضا قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي بينا له طريق الخير والشر بدليل قوله: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}. وأما الهدى الخاص فهو تفضل الله بالتوفيق على العبد ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} الآية. وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} فإذا علمت ذلك فاعلم أن الهدى الخاص بالمتقين هو الهدى الخاص وهو التفضل بالتوفيق عليهم والهدى العام للناس هو الهدى العام، وهو إبانة الطريق وإيضاح المحجة، وبهذا يرتفع الإشكال أيضا بين قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} مع قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} لأن الهدى المنفي عنه صلى الله عليه وسلم هو الهدى الخاص لأن التوفيق بيد الله وحده ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا، والهدى المثبت له هو الهدى العام الذي هو إبانة الطريق وقد بينها صلى الله عليه وسلم حتى تركها محجة بيضاء ليلها كنهارها، والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

قال رحمه الله:
{ذَلِكَ الْكِتَابُ} الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ: وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ لِمَا يُكْتَبُ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هَذِهِ الرُّقُومُ وَالنُّقُوشُ ذَاتُ الْمَعَانِي، وَالْإِشَارَةُ تُفِيدُ التَّعْيِينَ الشَّخْصِيَّ أَوِ النَّوْعِيَّ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْكُتُبِ، بَلِ الْمُرَادُ كِتَابٌ مَعْرُوفٌ مَعْهُودٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِوَصْفِهِ، وَذَلِكَ الْعَهْدُ مَبْنِيٌّ عَلَى صِدْقِ الْوَعْدِ مِنَ اللهِ بِأَنَّهُ يُؤَيِّدُهُ بِكِتَابٍ تَامٍّ كَامِلٍ كَافِلٍ لِطُلَّابِ الْحَقِّ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ فِي جَمِيعِ شُئُونِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ فَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا كُلُّهُ وَقْتَ نُزُولِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ، فَقَدْ يَكْفِي فِي صِحَّتِهَا وُجُودُ الْبَعْضِ، وَقَدْ كَانَ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ جُمْلَةٌ عَظِيمَةٌ قَبْلَ نُزُولِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابَتِهَا فَكُتِبَتْ وَحُفِظَتْ، فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِ بَلْ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِشَارَةِ أَنْ يُشَارَ إِلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ فِيهَا وَصْفُ {هُدًى لِلْمَتَّقِينَ} وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْكِتَابِ كُلِّهِ عِنْدَ نُزُولِ بَعْضِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِكْمَالِ الْكِتَابِ كُلِّهِ.
وَمِنْ حِكْمَةِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِهَذَا الْكِتَابِ أَيِ الْمَكْتُوبِ الْمَرْقُومِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ الْكِتَابُ وَحْدَهُ، وَلَا يَضُرُّ أَنَّهُ عِنْدَ النُّزُولِ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا بِالْفِعْلِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: أَنَا أُمْلِي كِتَابًا، أَوْ هَلُمَّ أُمْلِ عَلَيْكَ كِتَابًا، وَالْإِشَارَةُ الْبَعِيدَةُ بِالْكَافِ يُرَادُ بِهَا بُعْدُ مَرْتَبَتِهِ فِي الْكَمَالِ، وَعُلُوُّهُ عَنْ مُتَنَاوَلِ قَرِيحَةِ شَاعِرٍ أَوْ مَقُولِ خَطِيبٍ قَوَّالٍ، وَالْبَعْدُ وَالْقُرْبُ فِي الْخِطَابِ الْإِلَهِيِّ إِنَّمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ شَيْئًا بَعِيدًا عَنْهُ تَعَالَى أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ فِي الْمَكَانِ الْحِسِّيِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْأَشْيَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا الْقُرْبُ مِنْهُ وَالْبُعْدُ عَنْهُ تَعَالَى مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا بِعِلْمِهِ.
{لَا رَيْبَ فِيهِ} الرَّيْبُ وَالرِّيبَةُ: الشَّكُّ وَالظِّنَّةُ التُّهْمَةُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابُ مُبَرَّأٌ مِنْ وَصَمَاتِ الْعَيْبِ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا رِيبَةَ تَعْتَرِيهِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا فِي كَوْنِهِ هَادِيًا مُرْشِدًا، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ فِي قُوَّةِ آيَاتِهِ وَنُصُوعِ بَيِّنَاتِهِ، بِحَيْثُ لَا يَرْتَابُ عَاقِلٌ مُنْصِفٌ وَغَيْرُ مُتَعَنِّتٍ وَلَا مُتَعَسِّفٍ فِي كَوْنِهِ هِدَايَةً مُفَاضَةً مِنْ سَمَاءِ الْحَقِّ.
مُهْدَاةً إِلَى الْخَلْقِ، عَلَى لِسَانِ أُمِّيٍّ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ قَبْلَهُ الِاشْتِغَالُ بِشَيْءٍ مِنْ عُلُومِهِ، وَلَا الْإِتْيَانُ بِكَلَامٍ يَقْرُبُ مِنْهُ فِي بَلَاغَتِهِ، وَلَا أُسْلُوبِهِ حَتَّى بَعْدَ نُبُوَّتِهِ- وَلِهَذَا قَالَ فِيمَا يَأْتِي قَرِيبًا {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأَتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي كُلٍّ مِنْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ وَعُلُومِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْهِدَايَةِ- لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوَجَّهَ إِلَيْهِ الشُّبْهَةُ، أَوْ تَحُومَ الرِّيبَةُ، سَوَاءٌ أَشَكَّ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَعَمَى بَصِيرَتِهِ، أَوْ بِتَكَلُّفِهِ ذَلِكَ عِنَادًا أَوْ تَقْلِيدًا أَمْ لَا.
{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ وَالْهُدَى: مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ كَالتُّقَى وَالسُّرَى، وَالْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ هُنَا: الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مَعَ الْمَعُونَةِ الْخَاصَّةِ وَالْأَخْذِ بِالْيَدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمُرَادِ مِنِ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} لِأَنَّ كَوْنَهُ هَادِيًا لِلْمُتَّقِينَ بِالْفِعْلِ غَيْرُ كَوْنِهِ هَادِيًا- دَالًّا- لِسَائِرِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ أَخْذِهِمْ بِدَلَالَتِهِ، وَاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَكَلِمَةُ {الْمُتَّقِينَ} مِنَ الِاتِّقَاءِ، وَالِاسْمُ: التَّقْوَى، وَأَصْلُ الْمَادَّةِ: وَقَى يَقِي، وَالْوِقَايَةُ مَعْرُوفَةُ الْمَعْنَى، وَهُوَ: الْبُعْدُ أَوِ التَّبَاعُدُ عَنِ الْمُضِرِّ أَوْ مُدَافَعَتُهُ، وَلَكِنْ نَجِدْ هَذَا الْحَرْفَ مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} {وَاتَّقُوا اللهَ} {فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فَمَعْنَى اتِّقَاءِ اللهِ تَعَالَى اتِّقَاءُ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَإِنَّمَا تُضَافُ التَّقْوَى إِلَى اللهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا لِأَمْرِ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّقِيَ ذَاتَ اللهِ تَعَالَى وَلَا تَأْثِيرَ قُدْرَتِهِ، وَلَا الْخُضُوعَ الْفِطْرِيَّ لِمَشِيئَتِهِ.
وَمُدَافَعَةُ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى تَكُونُ بِاجْتِنَابِ مَا نَهَى وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْخَوْفِ مِنَ الْعَذَابِ وَمِنَ الْمُعَذِّبِ، فَالْخَوْفُ يَكُونُ ابْتِدَاءً مِنَ الْعَذَابِ وَفِي الْحَقِيقَةِ مِنْ مَصْدَرِهِ، فَالْمُتَّقِي: هُوَ مَنْ يَحْمِي نَفْسَهُ مِنَ الْعِقَابِ، وَلابد فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نَظَرٌ وَرُشْدٌ يَعْرِفُ بِهِمَا أَسْبَابَ الْعِقَابِ وَالْآلَامِ فَيَتَّقِيهَا.
وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّ الْعِقَابَ الْإِلَهِيَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اتِّقَاؤُهُ قِسْمَانِ: دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُتَّقَى بِاتِّقَاءِ أَسْبَابِهِ، وَهِيَ نَوْعَانِ: مُخَالَفَةُ دِينِ اللهِ وَشَرْعِهِ، وَمُخَالَفَةُ سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ.
فَأَمَّا عِقَابُ الْآخِرَةِ فَيُتَّقَى بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الْخَالِصِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَاجْتِنَابِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَفْضَلُ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى فَهْمِهِمَا وَاتِّبَاعِهِمَا سِيرَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَوَّلِينَ مِنْ آلِ الرَّسُولِ وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ.
وَأَمَّا عِقَابُ الدُّنْيَا فَيَجِبُ أَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى اتِّقَائِهِ بِالْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلاسيما سُنَنُ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ وَصِحَّةِ الْأَبْدَانِ- وَأَمْثِلَتُهَا ظَاهِرَةٌ- وَسُنَنُ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ.
فَاتِّقَاءُ الْفَشَلِ وَالْخِذْلَانِ فِي الْقِتَالِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ نِظَامِ الْحَرْبِ وَفُنُونِهَا، وَإِتْقَانِ آلَاتِهَا وَأَسْلِحَتِهَا الَّتِي ارْتَقَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ ارْتِقَاءً عَجِيبًا، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [8: 60] كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَسْبَابِ الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَاتِّحَادِ الْأُمَّةِ وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَاحْتِسَابِ الْأَجْرِ عِنْدَهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [8: 45- 46] وَنَحْنُ نُبَيِّنُ مَعْنَى التَّقْوَى فِي الْقُرْآنِ فِي كُلِّ مَوْضُوعٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ كَالتَّقْوَى فِي الْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (5: 88) وَمِثْلُهُ فِي سِيَاقِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ مِنْهَا (الْآيَةَ 90) وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُرَاجَعُ كُلُّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا فِي بَيَانِ الْمُرَادِ بِهَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ مَا مَعْنَاهُ:
كَانَ مِنَ الْجَاهِلِينَ مَنْ مَقَتَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَأَدْرَكَ أَنَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يُرْضِيهِ الْخُضُوعُ لَهَا، وَأَنَّ الْإِلَهَ الْحَقَّ يُحِبُّ الْخَيْرَ وَيُبْغِضُ الشَّرَّ. فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ اعْتَزَلَ النَّاسَ لِذَلِكَ، وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ إِلَّا الِالْتِجَاءَ وَالِابْتِهَالَ وَتَعْظِيمَ جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذَلِكَ مَا كَانَ يُسَمَّى صَلَاةً فِي لِسَانِهِمْ، وَبَعْضَ الْخَيْرَاتِ الَّتِي يَهْتَدِي إِلَيْهَا الْعَقْلُ فِي مُعَامَلَاتِ الْخَلْقِ.
وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [3: 113- 114] وَبِقَوْلِهِ: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [5: 82، 83] فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ هُمُ الْمُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَخْصِيصِ مَا جَاءَ فِي وَصْفِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ بِالْمُسْلِمِينَ، بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ كَانَ فِي قُلُوبِهِمُ اشْمِئْزَازٌ مِمَّا عَلَيْهِ أَقْوَامُهُمْ، وَفِي نُفُوسِهِمْ شَيْءٌ مِنَ التَّشَوُّفِ إِلَى هِدَايَةٍ يَهْتَدُونَ بِهَا، وَيَشْعُرُونَ بِاسْتِعْدَادِهِمْ لَهَا إِذَا جَاءَهُمْ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، فَالْمُتَّقُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذَنْ هُمُ الَّذِينَ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُمْ فَأَصَابَتْ عُقُولُهُمْ ضَرْبًا مِنَ الرَّشَادِ، وَوُجِدَ فِي أَنْفُسِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِتَلَقِّي نُورِ الْحَقِّ يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَوَقِّي سُخْطِ اللهِ تَعَالَى وَالسَّعْيِ فِي مَرْضَاتِهِ بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ، وَأَدَّاهُمْ إِلَيْهِ نَظَرُهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}.
في الآية الثانية من سورة البقرة وصف الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بأنه الكتاب. وكلمة قرآن معناها أنه يُقرأ، وكلمة كتاب معناها أنه لا يحفظ فقط في الصدور، ولكن يُدوّن في السطور، ويبقى محفوظًا إلى يوم القيامة، والقول بأنه الكتاب، تمييز له عن كل كتب الدنيا، وتمييز له عن كل الكتب السماوية التي نزلت قبل ذلك، فالقرآن هو الكتاب الجامع لكل احكام السماء، منذ بداية الرسالات حتى يوم القيامة، وهذا تأكيد لارتفاع شأن القرآن وتفرده وسماويته ودليل على وحدانية الخالق، فمنذ فجر التاريخ، نزلت على الأمم السابقة كتب تحمل منهج السماء، ولكن كل كتاب وكل رسالة نزلت موقوتة، في زمانها ومكانها، تؤدي مهمتها لفترة محددة وتجاه قوم مُحَّددين.
فرسالة نوح عليه السلام كانت لقومه، وكذلك ابراهيم ولوط وشعيب وصالح عليهم السلام، كل هذه رسالات كان لها وقت محدود، تمارس مهمتها في الحياة، حتى يأتي الكتاب وهو القرآن الكريم الجامع لمنهج الله سبحانه وتعالى. ولذلك بُشر في الكتب السماوية التي نزلت قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام بأن هناك رسولا سيأتي، وأنه يحمل الرسالة الخاتمة للعالم، وعلى كل الذين يصدقون بمنهج السماء أن يتبعوه، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} من الآية 157 سورة الأعراف والقرآن هو الكتاب، لأنه لن يصل إليه أي تحريف أو تبديل، فرسالات السماء السابقة ائتمن الله البشر عليها، فنسوا بعضها، وما لم ينسوه حرفوه، وأضافوا إليه من كلام البشر، ما نسبوه إلى الله سبحانه وتعالى ظلما وبهتانا، ولكن القرآن الكريم محفوظ من الخالق الأعلى، مصداقًا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ومعنى ذلك ألا يرتاب انسان في هذا الكتاب، لأن كل ما فيه من منهج الله محفوظ منذ لحظة نزوله إلى قيام الساعة بقدرة الله سبحانه وتعالى.
يقول الحق جل جلاله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}.
والإِعجاز الموجود في القرآن الكريم هو في الأسلوب وفي حقائق القرآن وفي الآيات وفيما رُوِىَ لنا من قصص الأنبياء السابقين، وفيما صحح من التوراة والانجيل، وفيما أتى به من علم لم تكن تعلمه البشرية ولازالت حتى الآن لا تعلمه، كل ذلك يجعل القرآن لا ريب فيه، لأنه لو اجتمعت الإنس والجن ما استطاعوا أن يأتوا بآية واحدة من آيات القرآن، ولذلك كلما تأملنا في القرآن وفي أسلوبه، وجدنا أنه بحق لا ريب فيه، لأنه لا أحد يستطيع أن يأتي بآية، فما بالك بالقرآن.
فهذا الكتاب ارتفع فوق كل الكتب، وفوق مدارك البشر، يوضح آيات الكون، وآيات المنهج، وله في كل عصر معجزات.
إن كلمة الكتاب التي وصف الله سبحانه وتعالى بها القرآن تمييزا له عن كل الكتب السابقة، تلفتنا إلى معان كثيرة، تحدد لنا بعض أساسيات المنهج التي جاء هذا الكتاب ليبلغنا بها. وأول هذه الأساسيات، أن نزول هذا الكتاب، يستوجب الحمد لله سبحانه وتعالى. واقرأ في سورة الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف: 1- 2] ويلفت الله سبحانه وتعالى عباده إلى أن إنزاله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم يستوجب الحمد من البشر جميعا، لأن فيه منهج السماء، وفيه الرحمة من الله لعباده، وفيه البشارة بالجنة والطريق اليها، وفيه التحذير من النار وما يقود اليها، وهذا التحذير أو الإنذار هو رحمة من الله تعالى لخلقه. لأنه لو لم ينذرهم لفعلوا ما يستوجب العذاب، ويجعلهم يخلدون في عذاب اليم. ولكن الكتاب الذي جاء ليلفتهم إلى ما يغضب الله، حتى يتجنبوه، إنما جاء برحمة تستوجب الحمد، لأنها أرتنا جميعًا، الطريق إلى النجاة من النار، ولو لم ينزل الله سبحانه وتعالى الكتاب، ما عرف الناس المنهج الذي يقودهم إلى الجنة، وما استحق احد منهم رضا الله ونعيمه في الآخرة.
وفي سورة الكهف، نجد تأكيدًا آخر، أن كتاب الله، وهو القرآن الكريم لن يستطيع بشر أن يبدل منه كلمة واحدة، واقرأ قوله جل جلاله: {وَاتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف: 27] ويبين الله سبحانه وتعالى لنا أن هذا الكتاب، جاء لنفع الناس، ولنفع العباد، وأن الله ليس محتاجًا لخلقه، فهو قادر على أن يقهر من يشاء على الطاعة، ولا يمكن لخلق من خلق الله أن يخرج من كون الله عن مرادات الله، واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 1- 4] ويأتي الله سبحانه وتعالى بالقسم الذي يلفتنا إلى أن كل كلمة من القرآن هي من عند الله، كما ابلغها جبريل عليه السلام لمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 75- 80] ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى ذلك الكتاب الذي هو منهج للانسان على الأرض، فبعد أن بين لنا جل جلاله، بما لا يدع مجالا للشك أن الكتاب منزل من عنده، وأنه يصحح الكتب السابقة كالتوراة، والانجيل والتي أئتمن الله عليها البشر، فحرفوها وبدلوها، وهذا التحريف أبطل مهمة المنهج الإلهي بالنسبة لهذه الكتب، فجاء الكتاب الذي لم يصل إليه تحريف ولا تبديل، ليبقى منهجًا لله، إلى أن تقوم الساعة.
أول ما جاء به هذا الكتاب هو إيمان القمة، بأنه لا إله إلا الله الواحد الأحد، والله سبحانه وتعالى يقول: {الم اللَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [آل عمران: 1- 3] وهكذا نعرف أن الكتاب نزل ليؤكد لنا، أن الله واحد أحد، لا شريك له، وأن القرآن يشتمل على كل ما تضمنته الشرائع السماوية من توراة وانجيل، وغيرها من الكتب.
فالقرآن نزل ليفرق بين الحق الذي جاءت به الكتب السابقة، وبين الباطل الذي أضافه أولئك الذي ائتمنوا عليها.
ثم يحدد الحق تبارك وتعالى لنا مهمتنا في أن هذا الكتاب مطلوب أن نبلغه للناس جميعًا، واقرأ قوله سبحانه: {المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 1- 2] فالخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم، يتضمن خطابا لأمته جميعًا، فالرسول صلى الله عليه وسلم كلف بأن يبلغ الكتاب للناس، ونحن مكلفون بأن نتبع المنهج نفسه ونبلغ ما جاء في القرآن للناس حتى يكون الحساب عدلا، وأنهم قد بلغوا منهج الله، ثم كفروا به أو تركوه، إذن فإبلاغ الكتاب من المهمات الأساسية التي حددها الله سبحانه وتعالى بالنسبة للقرآن.
والكتاب فيه رد على حجج الكفار وأباطيلهم. واقرأ قول الله تبارك وتعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 1- 2] وفي هذه الآيات الكريمة: يلفتنا الله سبحانه وتعالى إلى حقيقتين، الحقيقة الأول هي أن الكفار يتخذون من بشرية الرسول حُجة بأن هذا الكتاب ليس من عند الله. وكان الرد هو: أن كل الرسل السابقين كانوا بشرًا، فما هو العجب في أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولًا بشرًا. واللفتة الثانية هي أن هذا القرآن مكتوب بالحروف نفسها التي خلقها الله لنا لنكتب بها، ومع ذلك فإن القرآن الكريم نزل مستخدمًا لهذه الحروف التي يعرفها الناس جميعًا، معجزًا في ألا يستطيع الانس والجن، مجتمعين أن يأتوا بسورة واحدة منه. ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى لفتة اخرى إلى أن هذا الكتاب محكم الآيات، ثم بينه الله لعباده، واقرأ قوله جل جلاله في سورة هود: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 1- 2] هذه هي بعض الآيات في القرآن الكريم، التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يلفتنا فيها إلى معنى الكتاب، فآياته من عند الله الحكيم الخبير، وكل آية فيها اعجاز مُتَحدَّى به الإنس والجن، وهذا الكتاب لابد أن يبلغ للناس جميعًا، فالكتاب ينذرهم ألا يعبدوا إلا الله، ليكون الحساب عدلا في الآخرة، فمن أنذر وأطاع كان له الجنة، ومن عصى كانت له النار والعياذ بالله.
ثم يلفتنا الله إلى أن هذا الكتاب فيه قصص الأنبياء السابقين منذ آدم عليه السلام، يقول جل جلاله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 1- 3] وهكذا نجد أن القرآن الكريم، قد جاء ليقص علينا أحسن القصص بالنسبة للأنبياء السابقين، والأحداث التي وقعت في الماضي، ولم يأت القرآن بهذه القصص للتسلية أو للترفيه، وإنما جاء بها للموعظة ولتكون عبرة ايمانية، ذلك أن القصص القرآني يتكرر في كل زمان ومكان. ففرعون هو كل حاكم طغى في الأرض، ونصب نفسه إلها، وقارون هو كل من أنعم الله عليه فنسب النعمة إلى نفسه، وتكبر وعصى الله، وقصة يوسف هي قصة كل اخوة حقدوا على أخ لهم، وتآمروا عليه، وأهل الكهف هم كل فتية آمنوا بربهم، فنشر الله لهم من رحمته في الدنيا والآخرة، ما عدا قصة واحدة هي قصة مريم وعيسى عليهما السلام، فهي معجزة لن تتكرر ولذلك عرف الله سبحانه وتعالى ابطالها، فقال عيسى بن مريم وقال مريم ابنة عمران.
والكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى فيه لفتة إلى آيات الله في كونه. واقرأ قوله تعالى: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 1- 2] وهكذا بين لنا الله في الكتاب آياته في الكون ولفتنا اليها، فالسماء مرفوعة بغير عمد نراها، والشمس والقمر مسخران لخدمة الانسان، وهذه كلها آيات لا يستطيع أحد من خلق الله أن يدعيها لنفسه أو لغيره، فلا يوجد، حتى يوم القيامة من يستطيع أن يدعي أنه رفع السماء بغير عمد، أو أنه خلق الشمس والقمر وسخرهما لخدمة الانسان. ولو تدبر الناس في آيات الكون لآمنوا ولكنهم في غفلة عن هذه الآيات. ثم يحدد الحق سبحانه وتعالى مهمة هذا الكتاب وكيف أنه رحمة للناس جميعًا، فيقول جل جلاله: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم: 1- 2] أي أن مهمة هذا الكتاب هي أن يخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والشرك الي نور الإيمان، لأن كل كافر مشرك تحيط به ظلمات، يرى الآيات فلا يبصرها، ويعرف أن هناك حسابا وآخرة ولكنه ينكرهما، ولا يرى إلا الحياة الدنيا القصيرة غير المأمونة في كل شيء، في العمر والرزق والمتعة، ولو تطلع إلى نور الإيمان، لرأى الآخرة وما فيها من نعيم أبدي ولَعَمِلَ من أجلها، ولكن لأنه تحيط به الظلمات لا يرى، والطريقُ لأن يرى هو هذا الكتاب، القرآن الكريم لأنه يخرج الناس إذا قرأوه من ظلمات الجهل والكفر إلى نور الحقيقة واليقين. وبين الحق سبحانه وتعالى أن الذين يلتفتون إلى الدنيا وحدها، هم كالأنعام التي تأكل وتشرب، بل أن الانعام افضل منهم، لأن الانعام تقوم بمهمتها في الحياة، بينما هم لا يقومون بمهمة العبادة، فيقول الحق تبارك وتعالى: {الرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 1- 3] هكذا يخبرنا الحق أن آيات كتابه الكريم ومنهجه لا تؤخذ بالتمني، ولكن لابد أن يعمل بها، وأن الذين كفروا في تمتعهم بالحياة الدنيا لا يرتفعون فوق مرتبة الأنعام، وأنهم يتعلقون بأمل كاذب في أن النعيم في الدنيا فقط، ولكن الحقيقة غير ذلك وسوف يعلمون.
وهكذا بعد أن تعرضنا بإيجاز لبعض الآيات التي ورد فيها ذكر الكتاب أنه كتاب يبصرنا بقضية القمة في العقيدة وهي أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله، وهو بهذا يخرج الناس من الظلمات إلى النور.
وأن يلفتهم إلى آيات الكون، وأن يعرفوا أن هناك آخرة ونعيمًا أبديًا وشقاء أبديًا، وأن يقيم الدليل والحجة على الكافرين، وأن قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} يحمل معنى التفوق الكامل الشامل على كل ما سبقه من كتب. وأنه سيظل كذلك حتى قيام الساعة ولذلك وصفه الحق تبارك وتعالى بأنه كتاب ليكون دليلا على الكمال.
ولابد أن نعرف أن ذلك ليست كلمة واحدة، وإنما هي ثلاث كلمات.. ذا اسم اشارة.. واللام تدل على الابتعاد ورفعة شأن القرآن الكريم، وك لمخاطبة الناس جميعا بأن القرآن الكريم له عمومية الرسالة إلى يوم القيامة.
ونحن عندما نقرأ سورة البقرة نستطيع أن نقرأ آيتها الثانية بطريقتين، الطريقة الأولى أن نقول: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} ثم نصمت قليلا ونضيف: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} والطريقة الثانية أن نقول: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ} ثم نصمت قليلا ونضيف: {فيه هدى للمتقين} وكلتا الطريقتين توضح لنا معنى لا ريب أي لا شك.
أو نفي للشك وجزم مطلق أنه كتاب حكيم منزل من الخالق الأعلى. وحتى نفهم المنطلق الذي نأخذ منه قضايا الدين، والتي سيكون دستورنا في الحياة، فلابد أن نعرف ما هو الهدى ومن هم المتقون؟ الهدى هو الدلالة على طريق يوصلك إلى ما تطلبه. فالاشارات التي تدل المسافر على الطريق هي هدى له لأنها تبين له الطريق الذي يوصله إلى المكان الذي يقصده، والهدى يتطلب هاديا ومهديا وغاية تريد أن تحققه. فإذا لم يكن هناك غاية أو هدف فلا معنى لوجود الهدى لأنك لا تريد أن تصل إلى شيء، وبالتالي لا تريد من أحد أن يدلك على طريق.
اذن لابد أن نوجد الغاية أولا ثم نبحث عمن يوصلنا اليها.
وهنا نتساءل من الذي يحدد الهدف ويحدد لك الطريق للوصول إليه؟ إذا اخذنا بواقع حياة الناس فإن الذي يحدد لك الهدف لابد أن تكون واثقا من حكمته، والذي يحدد لك الطريق لابد أن يكون له من العلم ما يستطيع به أن يدلك على أقصر الطرق لتصل إلى ما تريد.
فإذا نظرنا إلى الناس في الدنيا نجد أنهم يحددون مطلوبات حياتهم ويحددون الطريق الذي يحقق هذه المطلوبات، فالذي يريد أن يبني بيتا مثلا يأتي بمهندس يضع له الرسم، ولكن الرسم قد يكون قاصرا على أن يحقق الغاية المطلوبة فيظل يغير ويبدل فيه. ثم يأتي مهندس على مستوى أعلى فيضع تصورًا جديدًا للمسألة كلها، وهكذا يكون الهدف متغيرا وليس ثابتا.
وعند التنفيذ قد لا توجد المواد المطلوبة فنغير ونبدل لنأتي بغيرها ثم فوق ذلك كله قد تأتي قوة أعلى فتوقف التنفيذ أو تمنعه. إذن فأهداف الناس متغيرة تحكمها ظروف حياتهم وقدراتهم، والغايات التي يطلبونها لا تتحقق لقصور علم البشر وامكاناته.
اذن فكلنا محتاجون إلى كامل العلم والحكمة ليرسم لنا طريق حياتنا، وأن يكون قادرا على كل شيء، ومالكا لكل شيء، والكون خاضعا لارادته حتى نعرف يقينا أن ما نريده سيتحقق، وأن الطريق الذي سنسلكه سيوصلنا إلى ما نريده. وينبهنا الله سبحانه وتعالى إلى هذه القضية فيقول: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120].
أن الله يريد أن يلفت خلقه إلى أنهم إذا أرادوا أن يصلوا إلى الهدف الثابت الذي لا يتغير فليأخذوه عن الله. وإذا أرادوا أن يتبعوا الطريق الذي لا توجد فيه أي عقبات أو متغيرات، فليأخذوا طريقهم عن الله تبارك وتعالى، إنك إذا اردت باقيا، فخذ من الباقي، وإذا أردت ثابتا، فخذ من الثابت. ولذلك كانت قوانين البشر في تحديد أهدافهم في الحياة وطريقة الوصول اليها قاصرة.
علمت أشياء وغابت عنها أشياء، ومن هنا فهي تتغير وتتبدل كل فترة من الزمان.
ذلك أن من وضع القوانين من البشر له هدف يريد أن يحققه، ولكن الله جل جلاله لا هوى له، فإذا أردت أن تحقق سعادة في حياتك، وأن تعيش آمنا مطمئنا، فخذ الهدف عن الله، وخذ الطريق عن الله. فإن ذلك ينجيك من قلق متغيرات الحياة التي تتغير وتتبدل. والله قد حدد لخلقه ولكل ما في كونه أقصر طريق لبلوغ الكون سعادته. والذين لا يأخذون هذا الطريق يتعبون أنفسهم ويتعبون مجتمعهم ولا يحققون شيئا.
اذن فالهدف يحققه الله لك، والطريق يبينه الله لك، وما عليك إلا أن تجعل مراداتك في الحياة خاضعة لما يريده الله.
ويقول الله سبحانه وتعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}. ما معنى المتقين؟ متقين جمع متق. والاتقاء من الوقاية، والوقاية هي الاحتراس والبعد عن الشر، لذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] أي اعملوا بينكم وبين النار وقاية. احترسوا من أن تقعوا فيها، ومن عجيب أمر هذه التقوى أنك تجد الحق سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم- والقرآن كله كلام الله- {اتقوا الله} ويقول: {اتقوا النار}. كيف نأخذ سلوكا واحدا تجاه الحق سبحانه وتعالى وتجاه النار التي سيعذب فيها الكافرون؟!
الله تعالى يقول: {اتقوا النار}. أي لا تفعلوا ما يغضب الله حتى لا تعذبوا في النار، فكأنك قد جعلت بينك وبين النار وقاية بأن تركت المعاصي وفعلت الخير.
وقول تعالى: {اتقوا الله} كيف نتقيه بينما نحن نطلب من الله كل النعم وكل الخير دائما. كيف يمكن أن يتم هذا؟ وكيف نتقي من نحب؟
نقول أن لله سبحانه وتعالى صفات جلال وصفات جمال، صفات الجلال تجدها في القهار والجبار والمذل، والمنتقم. والضار. كل هذا من متعلقات صفات الجلال، بل إن النار من متعلقات صفات الجلال.
أما صفات الجمال فهي الغفار والرحيم وكل الصفات التي تتنزل بها رحمات الله وعطاءاته على خلقه. فإذا كنت تقي نفسك من النار- وهي من متعلقات صفات الجلال- لابد أن تقي نفسك من صفات الجلال كلها. لأنه قد يكون من متعلقاتها ما أشد عذابا وايلاما من النار، فكأن الحق سبحانه وتعالى حين يقول: {اتقوا النار}. و: {اتقوا الله} يعني أن نتقي غضب الله الذي يؤدي بنا إلى أن نتقي كل صفات جلاله، ونجعل بيننا وبينها وقاية. فمن اتقى صفات جلال الله أخذ صفات جماله.
ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كانت آخر ليلة من رمضان تجلى الجبار بالمغفرة» وكان المنطق يقتضي أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تجلى الرحمن بالمغفرة» ولكن مادامت هناك ذنوب، فالمقام لصفة الجبار الذي يعذب خلقه بذنوبهم. فكأن صفة الغفار تشفع عند صفة الجبار، وصفة الجبار مقامها للعاصين، فتأتي صفة الغفار لتشفع عندها، فيغفر الله للعاصين ذنوبهم، وجمال المقابلة هنا حينما يتجلى الجبار بجبروته بالمغفرة فساعة تأتي كلمة جبار، يشعر الانسان بالفزع والخوف والرعب. لكن عندما تسمع «تجلى الجبار بالمغفرة» فإن السعادة تدخل إلى قلبك. لأنك تعرف أن صاحب العقوبة وهو قادر عليها قد غفر لك. والنار ليست آمرة ولا فاعلة بذاتها ولكنها مأمورة. اذن فاستعذ منها بالآمر أو بصفات الجمال في الآمر.
يقول الحق سبحانه وتعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} ولقد قلنا أن الهدى هدى الله، لأنه هو الذي حدد الغاية من الخلق ودلنا على الطريق الموصل اليها. فكون الله هو الذي حدد المطلوب ودلنا على الطريق إليه فهذه قمة النعمة، لأنه لم يترك لنا أن نحدد غايتنا ولا الطريق اليها. فرحمنا بذلك مما سنتعرض له من شقاء في أن نخطئ ونصيب بسبب علمنا القاصر، فنشقى وندخل في تجارب، ونمشي في طرق ثم نكتشف أننا قد ضللنا الطريق فنتجه إلى طريق آخر فيكون اضل وأشقى.
وهكذا نتخبط دون أن نصل إلى شيء، وأراد سبحانه أن يجنبنا هذا كله فأنزل القرآن الكريم، كتابا فيه هداية للناس وفيه دلالة على أقصر الطرق لكي نتقي عذاب الله وغضبه.
والله سبحانه وتعالى قال: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} أي أن هذا القرآن هدى للجميع، فالذي يريد أن يتقي عذاب الله وغضبه يجد فيه الطريق الذي يحدد له هذه الغاية، فالهدى من الحق تبارك وتعالى للناس جميعا. ثم خص من آمن به بهدى آخر، وهو أن يعينه على الطاعة.
اذن فهناك هدى من الله لكل خلقه وهو أن يدلهم سبحانه وتعالى ويبين لهم الطريق المستقيم. هذا هو هدى الدلالة، وهو أن يدل الله خلقه جميعا على الطريق إلى طاعته وجنته. واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] اذن الحق سبحانه وتعالى دلهم على طريق الهداية، ولكنهم أحبوا طريق الغواية والمعصية واتبعوه، هذه هداية الدلالة، أما هداية المعونة ففي قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] وهذه هي دلالة المعونة، وهي لا تحق إلا لمن آمن بالله واتبع منهجه وأقبل على هداية الدلالة وعمل بها، والله سبحانه وتعالى لا يعين من يرفض هداية الدلالة، بل يتركه يضل ويشقى.
ونحن حين نقرأ القرآن الكريم نجد أن الله تبارك وتعالى يقول لنبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56] وهكذا نفى الله سبحانه وتعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون هاديا لمن أحب، ولكن الحق يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] فكيف يأتي هذا الاختلاف مع أن القائل هو الله.
نقول: عندما تسمع هذه الايات اعلم أن الجهة منفكة، يعني ما نفى غير ما أثبت، ففي غزوة بدر مثلا أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصى قذفها في وجه جيش قريش. يأتي القرآن الكريم إلى هذه الواقعة فيقول الحق سبحانه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] نفي للحدث وإثباته في الآية نفسها، كيف رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن الله تبارك وتعالى قال: {وَمَا رَمَيْتَ}؟! نقول إنه في هذه الآية الجهة منفكة. الذي رمى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي أوصل الحصى إلى كل جيش قريش لتصيب كل مقاتل فيهم هي قدرة الله سبحانه وتعالى. فما كان لرمية رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصى يمكن أن تصل إلى كل جيش الكفار، ولكن قدرة الله هي التي جعلت هذا الحصى يصيب كل جندي في الجيش.
أما قول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
فهي هداية دلالة. أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغه للقرآن وبيانه لمنهج الله قد دل الناس كل الناس على الطريق المستقيم وبينه لهم. وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}. أي إنك لا توصل الهداية إلى القلوب لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يهدي القلوب ويزيدها هدى وإيمانا. ولذلك أطلقها الله تبارك وتعالى قضية ايمانية عامة في قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} فالقرآن الكريم يحمل هداية الدلالة للذين يريدون أن يجعلوا بينهم وبين غضب الله وعذابه وقاية. اهـ.